ثقافة وفنمنوعات

من خيوط “ثوبنا”: بيسان الحاج حسن تعيد تعريف الهوية الفلسطينية

بيسان الحاج حسن: رحلة البحث عن الهوية الفلسطينية بين الجغرافيا والتراث

شبكة مراسلين
تقرير: مروة محاميد – حيفا

بيسان الحاج حسن، 37 عامًا، من مواليد عام 1988. قصة ولادتها في نابلس بدلًا من مدينتها الأصلية جنين خلال الانتفاضة الأولى بسبب صعوبة الوصول للمستشفيات، تعكس بداية لرحلة مليئة بالتنقل والتكيف. انتقلت بيسان لاحقًا للعيش في البيرة برام الله، حيث استقرت فيها.

بعد أن درست القانون في جامعة سوانزي ببريطانيا وأكملت الماجستير في قانون الرياضة، عملت في هذا المجال حتى عام 2020. كانت جائحة كورونا نقطة تحول جذرية وإيجابية في حياتها، دفعتها لترك عملها والبحث عن هويتها التي أرادت أن تشاركها مع العالم أجمع حول فلسطين. هذه المرحلة كانت أيضًا سببًا لعودتها للتواصل مع الأرض بعد سنوات من الانقطاع بسبب غيابها خارج فلسطين. بدأت بيسان تجوب فلسطين سيرًا على الأقدام وأحيانًا بالدراجة الهوائية، لتكتشف زوايا وقرى لم تكن تعرفها، وفي كل مرة كانت تنبهر وتكتشف أمورًا لم تكن في الحسبان.

مدينة البيرة: أصالة التراث وجمال الأثواب الفلسطينية

تُعد مدينة البيرة إحدى أهم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وتقع تحديدًا إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس وإلى الشرق مباشرةً من مدينة رام الله، حيث تُلصقها وتُشكّلان معًا تكتلاً حضريًا واحدًا يُعرف غالبًا بـ “رام الله والبيرة”. تتميز البيرة بموقعها الاستراتيجي الهام الذي جعلها مركزًا تجاريًا واقتصاديًا حيويًا، بالإضافة إلى كونها نقطة وصل بين شمال الضفة الغربية وجنوبها. تاريخيًا، يعود تاريخ البيرة إلى آلاف السنين، وتضم في جنباتها العديد من المواقع الأثرية التي تشهد على تعاقب الحضارات عليها.

تولي المدينة، شأنها شأن بقية المدن الفلسطينية، اهتمامًا خاصًا بالتراث الثقافي وحفظه، لا سيما التراث الفلسطيني الأصيل الذي يُجسد الهوية الوطنية. وتُعد الأثواب الفلسطينية المطرزة جزءًا لا يتجزأ من هذا التراث الحي، حيث لا تزال النسوة في البيرة والمدن المجاورة يحرصن على ارتدائها في المناسبات الخاصة والعامة، كما تُبذل جهود حثيثة لتعليم الأجيال الشابة فن التطريز والحفاظ على هذه الحرفة التقليدية من الاندثار. وتُقام في المدينة فعاليات ومعارض دورية تُبرز جمال هذه الأثواب وتُساهم في توريثها كرمز للصمود والارتباط بالأرض.

“ثوبنا”: شغف يتجاوز الأجيال ويُحيي التراث

بدأ حب بيسان للأثواب منذ نشأتها، على الرغم من أن جداتها “مدنيات” ولا يرتدين الأثواب. لطالما استمتعت بيسان بالنظر إلى سيدات البيرة اللواتي يرتدين الأثواب بشكل يومي، وليس فقط في المناسبات.

“حتى اليوم، السيدات الفلسطينيات في أنحاء مدينة رام الله والبيرة يلبسن الأثواب بشكل يومي وليس فقط للمناسبات”

تأثرت بيسان بأمهات صديقاتها وجاراتها، وكان سبب هذا التأثر عميقًا بسبب تنقلها داخل البلاد وخارجها. في المناسبات الخاصة بالمدرسة، كانت بيسان دائمًا تستعير ثوبًا منهن لتمثيل هويتها الفلسطينية. كانت المرة الأولى التي ارتدت فيها ثوبًا في عيد ميلادها الرابع عشر أو السادس عشر، وقد استغرب جميع المدعوين من ذلك.

تصف بيسان شغفها قائلة: “أحب الأثواب منذ زمن طويل، أرى فيها شيئًا فنيًا وجماليًا وعراقة. وأنظر إلى السيدة التي ترتدي الثوب على أنها أنيقة وشامخة وقوية”. ومع ازدياد عمرها وتجاربها في التجوال الواسع في فلسطين، ازداد فضولها للتعرف على الأثواب، وتعلقت بقضية الأثواب.

بالصدفة، بدأت بيسان تتعرف على أناس بحكم عملها في الأرض وتجوالها مع الفلاحين والفلاحات وفي القرى. بدأت تلاحظ اختلاف الأثواب، وتساؤلات تدور في ذهنها: “لماذا الثوب مختلف هنا؟ لماذا هكذا؟” وبدأت بتجميع الأثواب.

في فترة ما، كان كل عائد مادي تحصل عليه يذهب لشراء ثوب قديم. وما شجعها أكثر هو قيامها بجولات سياحية غير تقليدية لفلسطينيين مغتربين داخل فلسطين. كان بعضهم يلاحظ أنها ترتدي أثوابًا مختلفة خلال الجولة ويسألونها من أين تحصل عليها. كانت بيسان تأخذهم إلى نساء في القرى والمدن اللواتي يقمن بالتطريز وبيع الأثواب.

الثوب: مفتاح بيسان للتواصل والتجذر

على مدى السنوات الخمس الماضية، خاضت بيسان رحلة فريدة من نوعها في البحث والتعمق والقراءة في عالم الأثواب. لم تكن هذه الرحلة مجرد شغف فردي، بل تطورت لتصبح مهمة حقيقية منذ عامين، حيث بدأت تجلس مع الناس، وتجمع المعلومات، وتزور المعارض الفنية والتراثية المتعلقة بالأثواب. اهتمامها لم يقتصر على الأثواب وحدها، بل امتد ليشمل التراث الشفوي الفلسطيني بصفة عامة.

تؤمن بيسان بأن التراث الشفوي هو جزء حيوي من عملية التوثيق التي تسعى جاهدة لنشرها عبر صفحاتها ومنصاتها. إنه تراث يسهل وصوله إلى الناس، وهي ترى في تراثها عمقًا وأصالة وثراءً وجمالًا لا يضاهى، مليئًا بالدروس التي يمكن للأجيال الجديدة أن تتعلم منها. كانت ترى أن طرق توصيل هذا التراث أو سرده في الماضي كانت غالبًا مملة ومعقدة، وتتطلب فهمًا عميقًا ومسبقًا لكي يتم استيعابها، مما كان يجعلها بعيدة عن متناول الكثيرين.

من هنا، انبثقت فكرتها: أن يكون الموضوع أبسط وأكثر إمتاعًا، ويصل إلى الشباب والشابات بسهولة. تؤمن بيسان بأنه “عادي أن نكون ما نريد وبالطريقة التي نحب، وعادي أن نكون جيلًا جديدًا ولدينا شخصيتنا وتطلعاتنا في الحياة والمستقبل”، ولكن الأهم هو أن نكون “متجذرين في أرضنا ونعرف عن بلادنا وتراثنا وتاريخنا”.

لطالما وجدت بيسان أن تواصلنا مع الأرض، وحبنا لفلسطين، ومعرفتنا بها، كلها تزيدنا قوة. لتعزيز هذه القوة، يجب أن يكون ذلك من خلال التراث. فالتراث ليس مجرد قصص تحكى أو أغاني تُغنى أو أشعار تُكتب، بل هو كل ما يتعلق بنا: يلبس ويؤكل ويُحكى. إنه في نهاية المطاف، جزء لا يتجزأ من هويتنا.

مع حبها للموضة وارتداء الملابس التي تعبر عنها وتستطيع صنعها، ربطت بيسان بين الموضوعين. وجدت أن الثوب الفلسطيني هو أكثر ما يعبر عنها، ويتحدث عن فلسطين، ويجعلها تتعلم كل يوم شيئًا جديدًا عن بلدها وأرضها. يزيدها الثوب تواصلًا وتجذرًا وعراقة بشكل عام، وفي الوقت نفسه يشبهها بألوانه وتطريزه وأنواع أقمشته المختلفة، التي تحمل قصصًا عن سبب اختلافها من منطقة لأخرى، وكيف كان يُصنع الصوف ويُصبغ يدويًا.

لكن هناك سر تكشفه بيسان: لقد كان الثوب وسيلة تمكنت من خلالها من التواصل مع السيدات بطريقة أكثر سلاسة والحصول على قبول أكبر منهن. هذا يعود إلى قضية المظهر؛ فغالبًا ما يُنظر إلى من يكون شكله “غريبًا” أو “متفتحًا” عن المنطقة، أو صغير السن، على أنه قليل المعرفة. عندما كانت تدخل إلى الأراضي الزراعية وترى الجدات يحصدن اليقطين أو القمح في حرارة الصيف الشديدة، لم يكن يعلمن في البداية أنها تستطيع فعلاً الفلاحة ومساعدتهن في الأرض.

هنا، أزال الثوب الحاجز المتضارب وأعطى شعورًا بالانسيابية. عندما كانت تصف سيارتها لأول مرة في مكان لا تعرفه، عزز الثوب دخولها الأول إلى مجتمعاتهم بشكل جميل. دائمًا ما كانت تسمع أسئلة مثل: “لماذا هذه الفتاة ترتدي ثوب؟ لماذا أتت إلينا؟” لقد أصبح الثوب وسيلة لطيفة وسلسة لبدء الحديث والتواصل.

فلسطين في كل خيط وحبة: ثوبنا، منصة الأصالة والإنتاج

من خلال منصة “ثوبنا”، نسعى لإعادة إحياء الإرث الفلسطيني العريق وتجسيده في كل قطعة. نحن لا نبيع فقط أثوابًا قديمة تحمل عبق التاريخ، بل نقوم أيضًا بإعادة تدوير القطع المطرزة العتيقة لنصنع منها أثوابًا جديدة بروح متجددة.

لكن “ثوبنا” ليست مجرد منصة للأزياء؛ إنها مبادرة لخلق فرص عمل للسيدات من خلال التطريز الجديد. هذا لا يعني أننا نغفل قيمة الدقة في التطريز القديم، بل على العكس تمامًا، نؤمن بضرورة تناقله والمحافظة عليه. ومع ذلك، من واجبنا دعم السيدات لكي يواصلن التطريز وإبداع قطع جديدة، لضمان استمرارية هذه المهارة العريقة وانتقالها من جيل إلى جيل. فهدفنا ألا تقتصر هذه المهارة على الجدات فحسب، بل أن يكتسبها جيل اليوم. يسعدنا أن نرى اهتمامًا كبيرًا من قبل العديد من السيدات والشابات بالتطريز حاليًا، ونحن نفخر بتصميم وبيع قطع فنية جديدة من إبداعاتهن.

بالإضافة إلى الأزياء، تمتد رؤية “ثوبنا” لتشمل مشاريع أخرى تتعلق بالزراعة والتراث الفلسطيني. ننظم جولات في فلسطين لتوثيق الأرض، مواسمها الزراعية، ومحاصيلها. ولا يقتصر دورنا على التوثيق، بل نسعى إلى إحياء هذه الممارسات، ونشجع على العودة للمشاركة في زراعة وحصاد الأرض بأنفسنا. لقد نجحت منصة “ثوبنا” في بناء شبكة قوية من التعاون مع الفلاحين والفلاحات، السيدات المطرزات، وصناع الأطباق اليدوية، لخلق فرص عمل حقيقية لهم. نفخر أيضًا بأن “ثوبنا” أصبحت مرجعًا موثوقًا لكل ما يتعلق بفلسطين، وهذا مصدر سعادة وفخر لنا.

من بيسان إلى العالم: رؤية لجمال فلسطين المتجدد

أحب أن يرى العالم فلسطين بعين الجمال التي أرى بها؛ ففلسطين بحد ذاتها قصة جمال متجددة. لطالما سعيت لجلب الأصدقاء والمعارف من كل حدب وصوب ليروا بأنفسهم روعة هذه الأرض، وكرم أهلها، وثرائها الزراعي، وتنوع مطبخها، وغنى موسيقاها.

أما عني، كـ”بيسان”، فأسعى لخلق نمط حياة يعكس قناعاتي وأصالتي. لم يكن اختيار اسم “ثوبنا” اعتباطياً؛ فـ”ثوبنا” ليس مجرد ثوب مطرز، بل هو تجسيد لما يربطنا بأرضنا وتراثنا. “هذا مش من ثوبنا” مثل شعبي يحمل دلالة عميقة، تعني “لا يشبهنا، لا ينتمي إلينا”. “ثوبنا” يمثل كل ما نصنعه، نزرعه، نحصده، نلونه، ونصبغه بأيدينا. إنه مصدر قوتنا، ورفضٌ للاستهلاكية والاعتماد على ثقافة الغرب في المظهر والموضة.

أطمح لتطوير هذه الفكرة لتشمل كل ما هو مصنوع يدوياً ومن بيئتنا الأصيلة. أستلهم من حضارات عريقة مثل مصر، وأستخلص المواد الخام من نسيجنا العربي، كالكتان والقطن المزروع في مصر، والأقمشة السورية، والحلي المصرية واليمنية، التي تعكس أفكارنا وبيئتنا وحياتنا.

أتطلع قدماً لنمو منصة “ثوبنا” وتطورها، وأن يلتحق بنا المزيد من الأشخاص الذين يؤمنون بهذه الرؤية، وأن يغوصوا معنا لاكتشاف فلسطين بكل أبعادها.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

Related Articles

Back to top button
wordpress reviews