محمد صلاح الدين يكتب: «حديثي عن الفساد» (1) الفساد والتعسف إفساد
شبكة مراسلين
بقلم/ محمد صلاح الدين
مستشار تطوير أعمال ومدرب معتمد، ومؤلف ميثاق الدار الوظيفي
سلسلة «حديثي عن الفساد» مقالات تهدف إلى رفع الوعي بالجوانب الإنسانية والوظيفية، والصراع الحديث بين الإصلاح والفساد، مع التركيز على خطورة الفساد، وتقديم رؤية تجمع بين الأصالة والمعاصرة في المعالجة.
فإذا كنت تتطلع إلى قيادة أو أن تكون جزءًا من حركة تغيير إيجابية في مؤسستك أو مجتمعك، فلا تفوت فرصة متابعة هذه السلسلة المهمة..
إن حديثي عن الفساد ليس حديثًا نظريًا لشخص قرأ بعض قصص الفساد المنشورة في الصحف أو اطلع على بعضها في الكتب فحسب، بل حديث من مَر بتجارب عملية في واقع الحياة المهنية والوظيفية، إنه حديث صاحب تجارب قاد فيها العديد من التحقيقات الإدارية والأخلاقية والتي كان منها تحقيقات في حالات سرقات وتضارب مصالح وحالات تحرش وحالات تنمر وحالات اعتداء لفظي وجسدي وحالات سوء استخدام للوظيفة وحالات إرهاب وظيفي وحالات افتراء “تبلي” لتشويه السمعة وحالات اختراق داخلي للبريد الالكتروني الرسمي تم فيها تكليف شركة متخصصة لتغطية الجانب الفني من التحقيقات، وتحقيقات أخرى في حالات اختراق لأنظمة الرقابة البصرية وحالات استخدام أصول الشركة وابتزاز للموظفين للحصول على امتيازات وخدمات شخصية دون علم أو موافقة إدارة الشركة، وغيرها من التجارب التي فُتحت بشأنها تحقيقات مُعمقة مع موظفين ومسؤولين ومدراء بعضهم تمت تبرئته وبعضهم تم فصله من عمله بعد أن ثبتت ضدهم التُهم الموجهة إليهم وبعضهم وقعت في حقهم حزمة عقوبات رادعة مناسبة هدفها الاستصلاح الإنساني وإعادة التأهيل الوظيفي للاستمرار في المؤسسة واحترام قواعد الامتثال والأخلاق الوظيفية.
وإذا كُنا نتحدث عن الفساد وعن التحقيقات الداخلية التي قد تطلب دعوة جهات خارجية متخصصة للمشاركة فيها، فلا بد من التأكيد على أن يكون لدى المؤسسة نظام متكامل للعدالة الوظيفية، وسياسة داخلية لإدارة التحقيقات الإدارية، بما يضمن كامل الحقوق الوظيفية التي يكفلها القانون للموظف الذي يخضع للتحقيق وأولها:
أن المُتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأن الحقوق لا تسقط بالإدانة بل يتم التعامل مع الموظف المُدان بما يضمن عدم انتهاك الكرامة بما في ذلك الحفاظ على سرية التحقيقات وعدم الإفصاح أو الإعلان عنها داخل المؤسسة حفاظًا على كرامة الموظف ومنحه الحق الكامل في الدفاع عن نفسه وتبرئة سمعته، ثم عدم التشفي الوظيفي لأننا نُدرك بأن الأصل في العقوبات هو الردع والزجر والتعزير لعدم التكرار وليس الانتقام، ثم منح الفرصة مرة أخرى وتجاوز الخطأ بعد تلمس الاجتهاد في التغيير والإصلاح.
إن عملي مع مؤسسات وشركات ومنظمات محلية وعربية ودولية، وحصولي على تدريب نوعي في موضوعات الفساد المتنوعة أسهم في إثراء التجربة والتعرف على حالات الفساد والمعضلات الأخلاقية وما يدور حولها من قضايا وقصص الفساد الشخصي الأخلاقي والوظيفي، كذلك سماعي لآثار الكثير من قصص الفساد على الأفراد والمنظمات، اطلعت فيها على تجارب كثير من الزملاء من المدراء في العديد من المنظمات.
وقد تشكل لديّ يقين تام بأن ظاهرة الفساد هي ظاهرة تتجاوز البُعد الواحد “المادي” إلى أبعاد متعددة “معنوية” أخرى وعليه فتعريف الفساد بحاجة دائمًا للتعريف الخاص بدلًا من الوقوع في خطأ استخدام تعريفات عامة أو حتى المُبالغات في توصيف السلوكيات الفاسدة أو الخاطئة ربما يؤدي إلى الخطأ في توقيع العقوبات على الموظفين وبالتالي تتحول القضية من قضية معاقبة مذنب في قضية فساد إلى قضية تعسف في استخدام الحق ووقوع ظُلم على مخطئ.
إن فكرة التعامل مع الفساد على أنه ظاهرة وتحد يحتاج إلى مواجهة حاسمة بالقانون تبدو فكرة ساذجة فيها من المُراهقة الإدارية والسطحية الكثير بل قد تبدو في بعض السياقات أنها فكرة تُساعد في تعميق الفساد وانتشاره لا معالجته أو الحد منه.
لذا أنصح المدراء والمسؤولين عن منظومة العدالة الوظيفية (إن وجدت) ألا يتعسفوا في استخدام الحق حتى لا يفتنوا الناس، وأن يؤمنوا بأن العقوبة والتعزير للزجر والنهي وليس للتشفي والانتقام وممارسة السادية الوظيفية على المخطئين ، وأن المسؤول الناضج إيمانيًا ووظيفيًا هو الذي يؤمن بأن “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” وأن المسؤولين من أدوراهم الإنسانية والوظيفية منح الفرص للناس وتوفير بيئة تُشجع على الإصلاح والتقويم، وهذا ما سنتحدث عنه في اللقاء القادم بإذن الله.