مقالات

الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات

طريق التعايش من واقع الأزمات إلى آفاق المستقبل

شبكة مراسلين
مقال بقلم: محمد سعد الأزهري

في عالم تتصارع فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تبرز الوحدة الوطنية كحجر الزاوية لبناء المجتمعات القادرة على تجاوز جراح الماضي ومواجهة تحديات الحاضر.

فالتعايش المجتمعي ليس شعاراً رومانسياً، بل ضرورة وجودية أثبتتها تجارب الشعوب من أوروبا المُدمَّرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى جنوب إفريقيا التي انتصرت على نظام الفصل العنصري بالمصالحة، ورواندا التي نهضت من مذابح الإبادة إلى نموذج للتضامن.

فهل تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية، التي تعاني من انقسامات عميقة، أن تستلهم هذه الدروس وتصنع مستقبلاً مشتركاً؟

1 – الوحدة الوطنية: دروس من التاريخ

لم تبنَ الأمم العظيمة إلا على أسس الوحدة والتعاون. فالاتحاد الأوروبي، الذي بدأ كفكرة لوقف الحروب بين فرنسا وألمانيا، أصبح قوة عالمية تعتمد على التكامل الاقتصادي والسياسي. وفي آسيا، تجاوزت فيتنام آثار الحرب بالتركيز على الهوية الوطنية، بينما حوّلت سنغافورة التنوع العرقي إلى مصدر قوة. أما في إفريقيا، فقد نجحت دول مثل غانا ونيجيريا في خفض حدة الصراعات القبلية عبر سياسات إدماجية. وفي العالم العربي، تبقى تجربة المغرب في المصالحة الوطنية بعد سنوات من “السنوات الرصاص” مثالاً يُحتذى، بينما تدفع ليبيا واليمن وسوريا وفلسطين ولبنان والسودان.. ثمن الانقسامات حتى اليوم.

2 – أين الرجال الراشدون؟

“أليس منكم رجال راشدون؟” سؤال نبوي يتردد اليوم كصرخة في وجه النخب السياسية والدينية والإعلامية والمعارضة سواء بسواء. فالقادة الحقيقيون ليسوا من يغذون الانقسام، بل من يصنعون جسور الثقة بين المكونات المجتمعية. تاريخياً، كان نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، والمهاتير محمد في ماليزيا، وعبد الرحمن السويلم في السعودية (رمز الوحدة الوطنية)، نماذج لقادة حوّلوا الخلاف إلى فرصة للبناء. اليوم، يحتاج العالم العربي إلى قادة يرفعون شعار “الوطن أولاً”، ويُخضعون مصالحهم الشخصية لخدمة الصالح العام.

3 – الهوية الوطنية: درعٌ ضد التفتيت

تعظيم الهوية الوطنية يبدأ بترسيخ مبدأ أن دم المواطن وعرضه وماله وحريته خطوط حمراء لا تُمس، سواء في الدستور أو الإعلام أو المناهج التعليمية. ففي الدول التي نجحت في تعزيز الانتماء الوطني، مثل المملكة العربية السعودية، الإمارات والأردن، أصبحت الهوية الجامعة أقوى من الانتماءات الفرعية. وهذا يتطلب إصلاحاً تشريعياً يجرّم التحريض على الكراهية، وإعلاماً يُعلي قيم المواطنة، وتعليماً يُخرّج أجيالاً تؤمن بأن الوطن “مظلة الجميع”.

 4 –  محاربة ثقافة التمييز والانقسام

لا مكان في الوطن الواحد لخطاب التفرقة العرقية أو المذهبية أو الإقليمية. فالتجارب تُثبت أن العدوان والظلم – كما في سوريا وليبيا والسودان ولبنان والعراق وسوريا واليمن  – يفتحان أبواب الفوضى، بينما العدالة الاجتماعية – كما في النموذج المغربي والجزائري خلال المرحلة الانتقالية – تُرسي دعائم الاستقرار. الحكومات مطالبة بعدم التمييز بين المواطنين، والمعارضة مطالبة بتقديم النقد البنّاء لا التخوين، لأن الوطن ليس ملكاً لفصيل، بل مساحة مشتركة للعيش بكرامة.

5 – المعارضة: من الصراع إلى المبادرات
المعارضة الوطنية الفاعلة هي التي تتحول من دائرة الاحتجاج إلى دائرة الحلول. فبدلاً من الاصطدام بالأنظمة، عليها تقديم مبادرات واقعية للإصلاح، كالمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفق ضوابط قانونية، أو اقتراح قوانين تضمن الحريات العامة. تجربة “حوار الأطراف اليمنية” في الكويت (2016) – رغم تعثُّرها – تظل نموذجاً للحلول التفاوضية، بينما يُذكر فشل المعارضة العراقية في تقديم بدائل خلال أزمة الاحتجاجات (2019) كدرس في ضرورة النضج السياسي.

6 – دور الوساطة الدولية والإقليمية
لا يمكن إنكار حاجة العديد من الدول العربية لوساطة دولية مُحايدة، كما حدث في اتفاقية ستوكهولم الخاصة باليمن (2018). ومحاولات التهدئة بين المغرب كحكومة وبين حركة البوليساريو وبين الجزائر والمغرب وبين الجزائرين داخلين بينهن وبين بعض والتعايش الراقي بعد العشرية السوداء وما تم فيها من مذابح وعنف وعدم استقرار لكن النجاح يقتضي انتقاء وسطاء ذوي مصداقية، كمنظمة الأمم المتحدة أو دول مثل النرويج وسويسرا، أو هيئات من المملكة العربية السعودية والامارات العربية وقطر والكويت وتركيا وماليزيا وجنوب إفريقيا مع ضمان أن لا تتحول الوساطة إلى تدخل خارجي. كما ينبغي للقوى الإقليمية الفاعلة – الاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية وبيت العائلة ومقره الأزهر الشريف وعلماء الأمة وسياسيوها المخضرمون أهل الخبرات والتجارب – أن تلعب دوراً تحفيزياً لإيجاد أرضية مشتركة بين الحكومات والمعارضات.

7 – تأهيل الكوادر: استثمار في المستقبل
إن بناء الدولة الحديثة يحتاج إلى كوادر مدربة على إدارة التنوع والتعقيدات السياسية. هنا، تبرز أهمية برامج التبادل الثقافي مع دول مثل ماليزيا وألمانيا، والاستفادة من خبرات مؤسسات مثل “المعهد الديمقراطي الوطني” (NDI) في واشنطن. فالمعارضة التي تريد الحكم يجب أن تثبت جدارتها عبر تقديم برامج تدريبية لشبابها، كما فعلت أحزاب المعارضة في المغرب قبل دخولها الحكومة.

8 – توطين التجارب الناجحة
لم يعد سراً أن النخب السياسية اليابانية درست التجربة البريطانية في الإصلاح الإداري، وأن سنغافورة استلهمت النموذج السويسري في إدارة التنوع. على النخب العربية أن تنتقل من مرحلة “استيراد الحلول” إلى “توطين التجارب”، عبر زيارات ميدانية لبلدان مثل إندونيسيا (التي جمعت بين الإسلام والتنوع)، وإجراء شراكات مع جامعات عالمية لتأهيل الكوادر.

9 – المجتمع الدولي: شريك لا وصي
يجب على المنظمات الدولية – كجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي – التحرك بجدية لوقف نزيف الانقسامات، عبر آليات مثل “صناديق دعم الحوار الوطني” و”مراصد مصالحة المجتمع”. لكن هذا لا يعفي المؤسسات الدينية والثقافية المحلية من دورها في ترسيخ ثقافة التعايش، كما فعل الأزهر في مصر عبر مبادرات الحوار بين الأديان.

10 – نحو تكامل عربي وإسلامي فاعل
الوحدة الوطنية ليست غاية بحد ذاتها، بل بوابة للتكامل الإقليمي. فالعالم العربي لن يستعيد مكانته إلا إذا تحولت حدوده من خطوط تمزق إلى جسور تعاون، عبر مشاريع مثل “السوق العربية المشتركة” أو “القوة الأمنية الإسلامية المشتركة”. حينها، سنرى صوتاً عربياً موحداً في مجلس الأمن، وقوة اقتصادية قادرة على منافسة التكتلات العالمية.

خاتمة
الوحدة الوطنية ليست شعاراً يُرفع، بل عقداً اجتماعياً يُبنى بالإرادة السياسية، وبإشراك كل الأطياف في صناعة القرار. فكما قال المهاتير محمد: “النجاح لا يحتاج إلى أرض خصبة، بل إلى شعب يرفض الاستسلام للفشل”. آن الأوان لأن تصبح الوحدة خياراً استراتيجياً، لا ترفاً يُناقش.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews