دم المرأة الليبية.. أرخص من دم ماشية: العادات التي تصنع القاتل وتقتل الوعي

شبكة مراسلين
بقلم: سلمى مسعود
صحفية وكاتبة ليبية، مهتمة بالقضايا الإنسانية والحقوقية
لم يكن العنف ضد النساء غريبًا عن المجتمع الليبي يومًا. لكنه قبل 2011 ظلّ حبيس جدران البيوت، ترفعه الصيحات المكتومة وتطويه الأعراف الصارمة، فلا يخرج إلى العلن إلا نادرًا. كانت النساء تُضرب وتُهان وتُقتل أحيانًا دون أن يُسجّل ذلك في محاضر الشرطة أو تقارير الإعلام. بعد الثورة، ومع الانفتاح النسبي وحرية الرأي والتعبير، خرجت هذه الجرائم إلى النور… دون أن تتوقف.
عنف ما قبل الثورة… جريمة صامتة
عاشت النساء الليبيات، خاصة في مناطق الريف والجنوب، ضمن منظومة اجتماعية صارمة تُعلي قيمة الرجل على المرأة، وتعتبر التأديب الجسدي حقًا للرجل على زوجته أو ابنته. قبل 2011:
- لم يكن يُسمح للمرأة بالإبلاغ عن زوجها أو والدها.
- كانت تُحلّ القضايا العائلية داخل القبيلة أو العائلة، حتى جرائم القتل بدعوى الشرف.
- اعتُبر العنف شأناً خاصًا لا يحق للدولة أو القانون التدخل فيه.
تقول الباحثة الاجتماعية الليبية أ.خ:
“كانت المرأة تُقتل أو تُضرب بقسوة وتُحرق أحيانًا، ويُقال ماتت بجلطة أو اختناق، ولا أحد يجرؤ على التحقيق.”
2011… الثورة كشفت المستور لكنها لم تحمِ الضحايا
مع انهيار نظام القذافي وسقوط سلطة الدولة المركزية، ظهرت حرية التعبير والإعلام، فأصبح من الممكن:
- نشر قصص قتل النساء في الإعلام المحلي وصفحات التواصل.
- ظهور ناشطات يدافعن عن قضايا العنف الأسري وحقوق المرأة.
- انكشاف أعداد كبيرة من الجرائم التي ظلت صامتة لعقود.
- لكن هذه الحرية لم تضمن العدالة. بل زادت الفوضى وتعددت السلطات، فبات القتل أسهل، ودم المرأة أرخص من دم ماعز أو بقرة تُسرق.
أرقام العنف والقتل بعد 2011
- وثقت منظمات محلية 25 حالة قتل نساء في عام 2023 وحده (LANA, 2023).
- وفق Arab Barometer (2018-2019)، 7% من الأسر الليبية شهدت عنفًا منزليًا، وكانت النساء الضحايا في 34% من الحالات (arabbarometer.org).
- تشير UN Women إلى أن إفريقيا، بما فيها ليبيا، سجلت أعلى معدل عالمي للقتل القائم على النوع الاجتماعي (Femicide) عام 2023، بمعدل 2.9 وفاة لكل 100 ألف امرأة (UN Women, 2023).
لماذا دم المرأة أرخص من دم ماشية؟
- ثقافة ذكورية عنيفة
يُنظر للمرأة، خصوصًا في المناطق الريفية والقبلية، كأداة خدمة أو شرف للعائلة، وليس كإنسان مستقل له كرامته وحقوقه.
- غياب الدولة والقانون
لا يوجد قانون موحد لحماية النساء من العنف، بينما المادة 375 من قانون العقوبات لا تزال تخفف عقوبة القتل إذا ارتكب دفاعًا عن الشرف.
- الحرب والانقسامات
أسهمت الفوضى الأمنية وانتشار السلاح في سهولة ارتكاب الجرائم ضد النساء دون رقيب أو محاسبة.
“دم البهيمة له دية وقيمة معلومة… أما دم المرأة فلا قيمة له إذا كانت ضحية العنف الأسري.”
– تعليق ناشطة ليبية على جريمة قتل فتاة جنوب ليبيا عام 2022.
نساء يصفّقن لجلادهن
في كثير من هذه الجرائم، لا يقف الرجال وحدهم في صف القاتل أو المعتدي. بل للأسف، اعتادت أغلبية النساء الليبيات على هذه الثقافة حتى صرن يبررنها أو يصفقن لها، بحكم تربيتهم الاجتماعية والقيم الذكورية المهيمنة. تسمع في كثير من المجالس النسائية، حين تُقتل فتاة أو تختطف، عبارتهم المقدسة:
“اللي ما يدير شي ما يجيه شي.”
إنها عبارة تختصر مئات السنين من التواطؤ والصمت، إذ تُحمّل الضحية ذنب موتها أو اختطافها، بدلاً من محاسبة الجاني.
ورغم أن هناك نساء واعيات يرفضن هذه الثقافة ويدافعن عن حقوق المرأة وكرامتها، إلا أن المجتمع غالبًا ما يصفهن بعبارات مثل:
- “هذه أفكار شاذة.”
- “تريد تقليد الغرب.”
- “تُفسد النساء بفكرها.”
هذه الجرائم قد تطال أي امرأة… مصفقة أو رافضة
- الواقع أن العنف لا يفرّق بين امرأة تصفق له أو أخرى ترفضه. كل النساء مهددات ما دامت هذه الثقافة قائمة بلا مقاومة حقيقية.
- لذلك، على كل امرأة أن تكون واعية بحقوقها القانونية والدينية، وأن ترفض ثقافة الاضطهاد والقتل ضد النساء مهما لبست من مسميات الشرف أو العادات أو التقاليد اللعنه.
- العادات التي تشرعن العنف ليست دينًا ولا رجولة، بل ظلم وذل، والصمت عنها تواطؤ سيطال الجميع يومًا.
تعاليم الإسلام… حماية مغيبة
الإسلام حرم القتل والعنف ضد النساء
- يقول الله تعالى:
“وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ” [التكوير:8-9].
هذه الآية توبيخ لكل من يقتل أنثى ظلمًا وعدوانًا.
- وجاء في حديث النبي ﷺ:
“استوصوا بالنساء خيرًا” [رواه البخاري ومسلم].
أي عاملوهن بالرفق والإحسان والكرامة.
- كما قال ﷺ:
“اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة.” [رواه النسائي بإسناد صحيح].
أي أوجب على المجتمع ألا يُهمل حقهما أو يُظلمهما.
مفارقة مؤلمة
بينما يجرم الدين الإسلامي العنف والقتل ضد النساء، لا يزال المجتمع يشرعنه بتقاليد زائفة، بل يشرعنه القانون بمواد تخفف العقوبة باسم الشرف، لتصبح المرأة ضحية منظومتين: ثقافة ذكورية وقانون عاجز.
ما الذي يجب فعله؟
1. إلغاء المواد القانونية التي تبرر قتل النساء بدعوى الشرف.
2. سن قانون لحماية النساء من العنف المنزلي والقتل والاغتصاب والعنف السياسي.
3. تأسيس وحدة وطنية مستقلة لتوثيق ومتابعة قضايا قتل النساء ومحاسبة الجناة.
4. حملات توعية مجتمعية ودينية تُظهر حقيقة الإسلام في تكريم النساء وحمايتهن من الظلم.
خاتمة
إن دم المرأة الليبية لم يكن يومًا رخيصًا في ميزان الله والعدل، لكنه صار كذلك في ميزان مجتمع شرعن قتلها بالعادات والتقاليد، وفي ظل قانون لم يحسم أمره بعد ليكون منصفًا لها أو حاميًا لحقوقها.
لقد كشفت الثورة ما كان مخفيًا، لكنها عجزت عن إنهاء القتل أو ردع القتلة. وكأن حرية الكلام لم تمنح المرأة حرية الحياة.
إن العادات التي تبرر العنف ضد النساء ليست دينًا ولا رجولة، بل لعنة قديمة تقتلنا جميعًا – رجالًا ونساءً – حين تقتل فينا الرحمة والوعي والكرامة.
وهذه الجرائم لا تطال الرافضات وحدهن، بل حتى المصفقات لهذا الوضع لا ينجين منها. لأن ثقافة القتل لا تعرف الرحمة، ولا تفرق بين صامت ومؤيد ومعارض.
اليوم، أصبحت المرأة الليبية الواعية بلا مكان ولا وطن. وعيها صار تهمة، وصوتها صار جريمة.
لكن الحقيقة أن وعيها هو الطريق الوحيد لإنقاذها وإنقاذ المجتمع معها. لأن أمة تقتل نساءها أو تسكت عن قتلهم، هي أمة تمهد لقبور أبنائها جميعًا.
“المرأة الليبية لا يقتلها الرصاص فقط، بل تقتلها عادات لعينة تبرر دمها وتجعل وعيها جريمة… حتى صارت الواعية بلا مكان ولا وطن.”
– المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة مراسلين